الذكاء الاصطناعي- إبداع أم انفصال عن الذات والتراث؟

المؤلف: د. خالد حاجي11.10.2025
الذكاء الاصطناعي- إبداع أم انفصال عن الذات والتراث؟

ممَّا لا شك فيه أننا على أعتاب حقبة فريدة، مدفوعين بوتيرة التطور التقني المتسارعة؛ زمنٌ بات فيه الإنسان، بفضل القدرات الهائلة للذكاء الاصطناعي، قادرًا على بلوغ آفاق رحبة من الابتكار والتميز، سواء في المجالات العلمية والتقنية المتقدمة، أو في الساحات الفنية والأدبية الراقية. وغالبًا ما نشعر، وسط هذا التدفق المذهل للاكتشافات المتجددة، بأننا نصعد مدارجَ الرقي الإنساني، مقتربين أكثر من تحقيق الرفاهية والاطمئنان في هذا الوجود.

إلا أن المتأمل بعمق في أحوال العالم المتردية، وما يعج به من صراعاتٍ ومحن، وأوبئةٍ وحروبٍ مدمرة، سرعان ما يدرك أن البشرية تواجه منعرجًا حرجًا وأزمةً حقيقية على شتى الأصعدة، لا سيما على المستوى الأخلاقي والقيمي.

لذا، يحق لنا أن نتساءل بفضول: هل، مع دخولنا هذا العصر الذي تهيمن عليه التكنولوجيا الذكية الخارقة، والتي تتجاوز القدرات الفطرية للإنسان، ننزلق نحو حالة من الغفلة المطبقة! تلك الغفلة التي تنبئ بالزوال والاندثار، كما حذرنا من ذلك الحكماء القدامى، قائلين: "من غفل أفل"؟ وثمة دوافع جمة تدعو إلى هذا التساؤل، أبرزها أن التكنولوجيا باتت ترسخ في نفوس البشر إحساسًا طاغيًا بالسيطرة على الكون، وهو شعور يولّد كبرياءً وقوةً وهمية، ويصرف المرء عن التأمل في مكانته الحقيقية المتواضعة بين سائر المخلوقات.

أضحى بمقدور أي شخص، مهما كان نصيبه ضئيلًا من المهارات الفنية، أن ينافس كبار المبدعين الذين أمضوا عمرًا طويلًا في صقل مواهبهم. وهذا الأمر، على الرغم مما يبدو فيه من تحرير للإبداع، يحمل في طياته انعكاسات خطيرة على العلاقة الوثيقة بين الموهبة الفردية المبدعة والتراث الجماعي الراسخ

لقد أسهم الفيلسوف الألماني البارز "مارتن هايدغر" بدور محوري في التحذير من مغبة الانجرار الأعمى وراء التكنولوجيا في سياقنا المعاصر. ويُعد كتابه الشهير "سؤال التكنولوجيا" (Die Frage nach der Technik) مرجعًا أساسيًا يسعى إلى استكشاف جوهر التكنولوجيا الحقيقي، بدلًا من الاكتفاء باعتبارها مجرد أداة طيعة ومحايدة في يد الإنسان. فالتكنولوجيا، وفقًا لـ "هايدغر"، هي منظومة متكاملة لفهم العالم، تتجاوز إدراك الإنسان وقدرته على التحكم؛ ومن هذا المنطلق، فإنها تمثل خطرًا وقلقًا وجوديًا عميقًا.

بل يذهب "هايدغر" أبعد من ذلك، ليؤكد أن التكنولوجيا تشكل تهديدًا للوجود الأصيل، ذاك الوجود الذي يزدهر فيه الإبداع الإنساني نتيجة التعاون الوثيق والتفاعل المثمر بين الإنسان والطبيعة؛ ذلك أن العقل، عندما يتأثر بالتكنولوجيا، لا ينظر إلى الطبيعة إلا باعتبارها مجالًا للقياس والتعديل والاستغلال.

ويتضح من خلال رؤية "هايدغر" أن التكنولوجيا، بوصفها نظامًا عقليًا قائمًا بذاته، لا تعير اهتمامًا للعلاقات الوثيقة التي تربط الإنسان بالكون، بقدر ما تركز على تحقيق المكاسب والمصالح المادية، حتى لو كان ذلك على حساب البيئة أو على حساب الآخرين.

إن ما نشهده من اكتشافات تكنولوجية متسارعة يومًا بعد يوم، يجعلنا نؤمن بأن التكنولوجيا قد بلغت بالفعل مرحلة متقدمة، وبدأت تغير معالم الوجود الأصيل، وتنذر بتفكيك الروابط القائمة، ليس فقط بين الإنسان والكون، بل أيضًا بين الإنسان وأخيه الإنسان. ويكفي أن نتأمل مثالًا واحدًا من بين العديد من الأمثلة التي تجسد مخاطر المنظومة التكنولوجية على الروابط الثقافية التي تجمع الفرد المبدع ببيئته الثقافية والمجتمعية.

فقد ابتكرت شركات التكنولوجيا العملاقة نظام ذكاء اصطناعي أُطلق عليه اسم (Dalle.E)، وهو اسم مشتق بذكاء من كلمتين: اسم الفنان الإسباني الشهير "سالفادور دالي" (Dali)، واسم الروبوت المحبوب "وول.ي"، بطل فيلم (WALL.E). ويأتي هذا الاختيار للاسم ليعكس دلالة واضحة، وهي أن النظام المبتكر يسعى إلى تحقيق إبداع يمثل نتاجًا للتفاعل المثمر بين الإنسان والآلة، أو تمازجًا بين ذكائهما، بحيث يصعب تحديد ما إذا كان العمل المنجز هو فن إنساني أصيل أم برمجة تكنولوجية متطورة.

يكفيك أن تكتب بضع كلمات على جهاز الحاسوب، مثل "الطاولة" و "الرأس"، أو "القرد" و "الكتاب"، أو "السحب" و "النار"، أو أي كلمتين تختارها، لتنعم بتركيبات فنية لهذه الكلمات لا حدود لها، وتختار من بينها ما يروق لك ليصبح ملكية فكرية خاصة بك، بل يمكنك بيعه أو استخدامه في المنافسات الفنية المختلفة.

هذا الأمر يثير الدهشة والتساؤلات المشروعة: هل هذا الإبداع من صنع الإنسان، أم أنه من إبداع الآلة؟ أم أنه نتاج تعاون مشترك بينهما؟

هنا ندرك المغزى العميق الذي سعى إليه "هايدغر" من خلال نقده اللاذع للمنظومة التكنولوجية. فبالتأمل في النظام المذكور، نرى أننا ندخل مرحلة جديدة، حيث أصبح الإبداع شراكة وتفاعلًا بين الإنسان والآلة، بعد أن كان في الوجود الأصيل شراكة وتفاعلًا بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والثقافة.

تزخر التكنولوجيا بمخاطر جمة، لعل أبرزها هو الخطر المتمثل في فقدان الوظائف، كما أوضح ذلك "كارل بينيديكت فراي" (Carl Benedikt Frey) في كتابه القيم "فخ التكنولوجيا" (The Technology Trap). غير أن خطر فقدان الوظائف يعتبر عرضًا جانبيًا يمكن التغلب عليه من خلال إيجاد فرص عمل جديدة. وهو لا يكاد يذكر مقارنة بالأخطار الجسيمة التي يمثلها الذكاء الاصطناعي بدخوله مرحلة المزج بين الإنسان والآلة.

صحيح أن هذا المزج قد يضع حدًا لفنون الرسم التوضيحي، على سبيل المثال، ويجعل بمقدور أي شخص، مهما كان حظه قليلًا من هذه الفنون، أن يتفوق على المبدعين الذين قضوا سنوات طويلة في تطوير مهاراتهم. وهذا الأمر، وإن كان يبدو إيجابيًا في ظاهره، إلا أنه يحمل في طياته انعكاسات سلبية كبيرة على العلاقة بين الموهبة الفردية المبدعة والتراث الجماعي.

قبل الخوض في الأضرار المحتملة التي تصاحب المزج بين الإبداع الإنساني والآلي، يجدر بنا أن نتوقف قليلًا مع الشاعر الكبير "ت. س. إليوت" (T.S. Eliot) لكي نوضح مفهوم الإبداع أولًا. يرى "إليوت"، صاحب الكتاب الشهير "التراث والموهبة الفردية المبدعة" (Tradition and the Individual Talent)، أن على الفرد المبدع في مجال الشعر، على سبيل المثال، أن يستوعب تراثه الشعري استيعابًا كاملًا، بدءًا من "هوميروس"، أول شاعر في هذا التراث العريق.

فالفرد الموهوب المبدع، حسب "إليوت"، لا يبدأ من فراغ، بل ينطلق من حس مشترك، ويستلهم صوره الشعرية من التفاعل العميق مع الفضاء الثقافي الممتد عبر الزمن، ولا يوسع آفاق الإبداع إلا بقدر ما يثبت قدرته على الالتزام بالمعايير الذوقية الراسخة. فالخلاصة من كلام "إليوت" هي أن الفرد المبدع لن يكون مبدعًا حقًا إلا إذا أثبت قدرته على الذوبان في روح التراث.

ينطلق "إليوت" من قناعة راسخة مفادها أن الإبداع الحقيقي لا يزدهر إلا بالتفاعل مع بيئة ثقافية غنية، وهو ما يوافقه فيه "هايدغر"، الذي يؤمن بدوره بأن الإبداع في الوجود لا يتحقق إلا من خلال التفاعل المتناغم مع الطبيعة. ويهدف هذان العَلمان البارزان من رواد الفكر والنقد في السياق الحديث الغربي إلى التنبيه إلى خطورة الانجراف وراء الإبداع الفردي الذي يصاحبه تشتت المعنى، وانفصال الحس الفردي عن الحس الجماعي المتفاعل مع الأرض والتراث.

عندما ندرك مقاصد "إليوت" و "هايدغر"، فإننا نفهم نوع الضرر الذي يصاحب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، كما يتجلى بوضوح في برنامج "Dalle.E" وأشباهه. فهذا البرنامج، الذي يحول الإبداع إلى تفاعل بين الإنسان والآلة، بدلًا من أن يبقى تفاعلًا بين الإنسان والطبيعة أو الإنسان والتراث، يدفع بالفرد المبدع إلى أقصى درجات التحرر من قيود الحس والذوق الثقافيين المشتركين، وإلى قمة الانفصال عن الطبيعة.

فإبداع الإنسان والآلة لا يلتزم بمعايير محددة سلفًا للإبداع الفني، بل ينطلق من فكرة مجردة ليصل إلى فكرة أخرى أكثر تجريدًا. هذا بالإضافة إلى أن فيضان هذا الإبداع لا ينضب أبدًا، بحيث يستطيع الفرد ذو الحظ القليل في فنون الرسم أن ينجز من الأعمال الفنية في ساعة واحدة، ما يتطلب من الفنان المقتدر سنة كاملة من الجهد.

فالتجريد من جهة، والوفرة من جهة أخرى، هما عاملان أساسيان يساهمان في تشتيت المنظومة الفنية الإنسانية المرتبطة بالأرض والثقافة والتراث. فالأعمال الإبداعية المنجزة من الإنسان والآلة تولد بمعايير جديدة خاصة بها. وهذا ما يخرج بالفن من دائرة الإبداع الثقافي، أي ذلك الذي يخضع لضوابط ثقافية تضفي عليه المعنى، إلى دائرة الإبداع الفردي المشخصن.

فمع الذكاء الاصطناعي، ندخل مرحلة تاريخية جديدة، يتحول فيها الإبداع الفني إلى مجرد تطبيقات رقمية، وعندها يصبح بمقدور كل فرد أن يتحول إلى مبدع يكتفي بإبداعه الخاص، مستغنيًا عن إبداعات الآخرين. أو إن شئت قلت: إن الذكاء الاصطناعي يسعى اليوم إلى نقل الإنسان إلى مرحلة يصبح فيها مبدعًا ومستهلكًا في آن واحد، يستهلك ما يبدعه.

لا ريب في أن لهذه التكنولوجيا جوانب إيجابية قد تحسن بها؛ ولكن لها أيضًا جوانب سلبية تسيء إليها وتجعلها قبيحة. فالذكاء الاصطناعي، بتحويله الإبداع الفني إلى مجرد برنامج أو تطبيق رقمي، يساهم في تفكيك الثقافة، وينتقل بالإبداع الإنساني من مرحلة التفاعل مع الأرض والمكان والثقافة، إلى مرحلة التفاعل مع الآلة، حيث يصبح كل شيء إبداعًا، وحيث يُصبغ المعنى على أشياء لا معنى لها.

وهكذا يبعدنا الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر عن ذواتنا وعن الوجود الأصيل، ويزيد من انفصالنا عن التراث، وعن الحس المشترك، فنتعرض لتأثير كلمات وصور عابرة لا جذور لها ولا قرار.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة